الطاعة المطلقة للرسول ﷺ

ما آتاكم الرسول فخذوه: تأصيل شرعي ومنهج تطبيقي

تُعدُّ آية ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7] من أعظم الآيات القرآنية التي أرست دعائم الطاعة المطلقة للنبي محمد ﷺ، وبيّنت منزلة السنة النبوية في التشريع الإسلامي، وأظهرت وجوب الانقياد التام لأوامره ونواهيه. هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن الفيء وتوزيعه، لكنّ العلماء مجمعون على أن دلالتها عامة تشمل كل ما أتى به الرسول من قول أو فعل أو تقرير. ولذلك، صار من المهم التعمق في مدلولها الشرعي والوقوف على تطبيقاتها العملية في حياة المسلمين.

المعنى اللغوي والشرعي للآية

جاء في الآية الكريمة:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

كلمة “آتَاكُم” مأخوذة من الفعل “أتى”، ومعناها “ما أعطاكم” أو “ما جلبه لكم” من تعاليم، أما “فَخُذُوهُ” فهي أمر واضح بالاتباع والتنفيذ، و”نَهَاكُمْ” أي ما منعكم عنه، و”فَانتَهُوا” أي اتركوه تمامًا. وهذا التعبير القرآني في غاية القوة والحسم، حيث لم يُترك للمؤمن خيار في اتباع النبي ﷺ، بل فُرض عليه الأخذ بكل ما يصدر عنه من توجيه، سواء ورد في القرآن أو في السنة.

السنة النبوية شقيقة القرآن في التشريع

من أعظم ما دلت عليه هذه الآية هو أن مصدر التشريع في الإسلام لا يقتصر على القرآن وحده، بل يشمل أيضًا السنة النبوية. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «كل ما حكم به رسول الله ﷺ، فهو مما فهمه من كتاب الله تعالى». بل ذهب جمهور العلماء إلى أن طاعة الرسول طاعة مستقلة، كما أن معصيته معصية مستقلة، واستدلوا على ذلك بالآيات التي تأمر بطاعته طاعة مطلقة كقوله: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80].

وهذا يبرز أن السنة ليست شارحة للقرآن فقط، بل هي أيضًا مؤسسة لأحكام جديدة لم تُذكر في القرآن صراحة، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وتحريم الذهب على الرجال، وكلها من السنن الثابتة.

تطبيقات الآية في حياة الصحابة

لقد كان الصحابة الكرام النموذج المثالي في تطبيق هذه الآية. لم يكونوا يفرقون بين القرآن والسنة من حيث وجوب الاتباع. فقد ورد أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ حديثًا، فلا تقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن السنة تفسر القرآن».

ومثال ذلك عندما خطب النبي ﷺ في حجة الوداع وقال: «خذوا عني مناسككم»، فحرص الصحابة على تقليده بدقة في كل أفعاله، بل كانوا يتتبعون مواضع قدميه ويتلمسون طريقته في التلبية والرمي والطواف، امتثالاً لأمره المباشر وأيضًا لعموم قوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾.

انحراف المعنى عند بعض الفرق

رغم وضوح هذه الآية، ظهرت عبر التاريخ فرق وطوائف أنكرت حجية السنة أو حاولت التهوين من شأنها، كالقرآنيين الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن وترك السنة. وهذا القول باطل ومردود عليهم بهذه الآية، لأن فيها أمرًا إلهيًا صريحًا بالأخذ بكل ما أتى به الرسول، دون قيد أو شرط أو انتقاء.

كما أن الواقع التشريعي في الإسلام لا يمكن أن يُفهم أو يُطبّق دون السنة. كيف تُقام الصلاة؟ كم عدد ركعاتها؟ ما هي شروط الزكاة؟ ما هي تفاصيل الحج؟ كلها أمور فصّلتها السنة، ولا وجود لتفصيلاتها في القرآن.

العلاقة بين الطاعة والاتباع

الطاعة تعني تنفيذ الأوامر، أما الاتباع فهو أعمّ، ويعني أيضًا الاقتداء، والاقتفاء، والسير على المنهج. ومن هنا كان الاتباع للنبي ﷺ لا يقتصر على الطاعة الفعلية، بل يشمل أيضًا محبته، التأسّي به، والاقتداء به في الأخلاق، التعامل، التعبد، وحتى طريقة النوم والأكل واللباس. ولذلك قال الله تعالى في موضع آخر:

﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21].

نماذج تطبيقية من السنة

الآية في السياق العام للمنهج الإسلامي

من يدرس آيات القرآن يجد أن طاعة النبي ﷺ وردت في عشرات المواضع، بصيغ مختلفة تؤكد كلها على وجوب الاتباع. وهذا يدل على أن الإسلام لا يُفهم إلا بفهم توجيهات النبي ﷺ. لذلك، فإن الآية تمثل قاعدة تشريعية ومنهجية، وهي ليست محصورة في الأمور التعبدية فقط، بل تشمل جميع مناحي الحياة: الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، التربوية، الأخلاقية، والسلوكية.

من آثار تطبيق الآية في المجتمعات الإسلامية

1. الاستقامة العامة: حين يحرص الناس على الاتباع الكامل للنبي ﷺ، تظهر آثار ذلك في الأخلاق والانضباط.

2. وحدة الأمة: السنة تجمع ولا تفرق، بخلاف الأهواء والآراء الشخصية.

3. تصحيح العبادة: السنة تُبيّن كيف تُعبد الله بشكل صحيح.

4. القضاء على البدع: الأخذ بما أتى به الرسول يُبطل كل ما أحدثه الناس من بدع لا أصل لها.

موقف العلماء من الآية

كلام العلماء في هذه الآية كثير، وكلهم متفقون على أنها دليل قطعي على وجوب العمل بالسنة. ومن أقوالهم:

• قال القرطبي: «هذا يدل على أن أمره ﷺ كأمر الله، ووجوب اتباعه كوجوب اتباع الله».

• وقال ابن كثير: «ما أمرتم به فافعلوه، وما نُهيتم عنه فاجتنبوه، فإنما يَأمر وينهى عن الله عز وجل».

• وقال ابن تيمية: «من ظن أنه يمكنه الاستغناء عن السنة فقد كذب بالقرآن».

من مظاهر الأخذ بما جاء به الرسول

1. تحكيم السنة في النزاعات: قال تعالى ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكّموك…﴾ [النساء: 65].

2. عدم التقدم بين يديه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1].

3. محبة ما جاء به ﷺ أكثر من النفس: كما قال عمر بن الخطاب للنبي: «لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي»، فقال له ﷺ: «لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال عمر: «الآن، والله لأنت أحب إليّ من نفسي»، فقال ﷺ: «الآن يا عمر».

العلاقة بين الآية ومقاصد الشريعة

الرسول ﷺ لم يأتِ من عنده، بل هو مبلّغ عن ربه، وكل ما جاء به يحقق مقاصد الشريعة الخمسة:

• حفظ الدين: عبر تصحيح العبادة ومنع البدع.

• حفظ النفس: من خلال تحريم القتل والانتحار.

• حفظ العقل: بتحريم المسكرات.

• حفظ المال: بتحريم السرقة والربا والغش.

• حفظ النسل: من خلال تنظيم الأسرة والزواج.

أبعاد الآية في العصر الحديث

في ظل ما يشهده العالم من تفسّخ قيمي وانهيار أخلاقي، تُصبح الآية دعوة دائمة للرجوع إلى المنهج النبوي في كل مجالات الحياة. كما أنها تردّ على دعوات التحديث المتفلّت من الشرع، أو تلك التي تدعو إلى “إسلام جديد” لا يلتزم بالوحي.

فما جاء به الرسول ﷺ هو الحق الخالد، وليس مجرد ثقافة تاريخية عابرة، بل وحي يوحى من رب العالمين.

الخاتمة

آية ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ ليست مجرد توجيه تربوي، بل هي تشريع ملزم، ومنهج حياة، ومصدر لهداية البشرية جمعاء. والتمسك بها هو جوهر الدين، وهو الفرقان بين الاتباع والابتداع، وبين الطاعة والمعصية. إنها تمثل حجر الزاوية في العلاقة بين المسلم وبين سنة نبيه، وهي دعامة ثابتة لبناء الأمة الإسلامية على أساس متين من الوحي، والاقتداء، والطاعة المطلقة لرسول الله ﷺ.

المراجع:

1. تفسير ابن كثير.

2. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر.